على مدار السنوات الممتدة منذ العام 2011، فقد آلاف السوريين حياتهم أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، إما غرقاً في مياه المتوسط، وإما برداً وجوعاً على حدود الدول، وإما غدراً على أيدي شبكات التهريب. ومع أنَّ معظم ضحايا حوادث الغرق هم من حملة الجنسية السورية، ولكن إلى الآن ليس هناك إحصاء دوليّ دقيق وموضوعيّ لإجمالي عدد هؤلاء.
كل ما هو متوفر لا يتعدى بضعة أرقام عن جثث جرى العثور عليها في مياه المتوسط، إذ تظهر بيانات أممية أن عددها وصل إلى نحو 500 جثة خلال 5 سنوات، أي ما معدّله سنوياً نحو 100 جثة، وهي بيانات تبقى، في نظر منظمات أممية وحقوقية، أقل بكثير من الأرقام الحقيقية، ولا سيما أنَّ الكثير من المفقودين لم يعثر على أيّ دليل يؤكّد نجاتهم أو وفاتهم، فضلاً عن أنّ تحلّل جثث أخرى حال دون التعرف إلى أصحابها وجنسياتهم.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أمرين: الأول أنَّ حوادث غرق السفن والمراكب المحمّلة بالمهاجرين غير الشرعيين حافظت على وتيرتها، وربما زادت بشكل ملموس خلال العامين الأخيرين تحت ضغط مجموعة من العوامل، والأمر الآخر أنَّ ذلك لم يمنع كثيرين من معاودة تجربة من سبقهم، رغم علمهم أنَّ نسب المخاطرة لا تزال مرتفعة.
وتالياً، إنّ حادثة غرق مركب لبناني محمل بنحو 150 مهاجراً سوريا ولبنانياً في الآونة الأخيرة لن تكون الأخيرة. وأياً كانت الإجراءات المتخذة رسمياً في بعض الدول، إلا أنها حادثة ربما تدفع نحو مزيد من البحث والدراسة لهذا الملف من مختلف جوانبه.
في هذا المقال، محاولة لتسليط الضوء على بعض النقاط المهمة في هذا الملف، ومقاربتها تبعاً لما هو متوفر من بيانات وأرقام إحصائية لها من المصداقية والموضوعية ما يؤهلها لتكون عوناً على تفسير الظاهرة التي باتت تؤرق العالم إلا دولنا العربية.
المخاوف الأمنية
حتى مطلع العام 2011، كان تاريخ الهجرة السورية الخارجية لمئة عام يقف عند 3 موجات، وفقاً لدراسة رسمية أجراها الباحث المعروف جمال باروت عام 2008.
الموجة الأولى تمت خلال الفترة الممتدة بين عامي 1880 و1914، وكانت دوافعها اقتصادية بدرجة أساسية، لكنها اختلطت بعوامل سياسية وثقافية أخرى، واتسمت بتركز اتجاهها صوب الأميركيتين، وهاجر خلالها نحو 500 ألف مهاجر سوري شكَّلوا ما يزيد قليلاً على ربع سكان سوريا آنذاك.
أما الموجة الثانية، فقد جاءت بعد عدة عقود، وتحديداً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكانت وجهة المهاجرين دول الخليج العربي وليبيا والجزائر، في حين أن الموجة الثالثة من هجرة السوريين كان لها خصوصية معينة، واتجهت في الدرجة الأولى إلى العمل في لبنان والأردن، وسدّ جزء من فراغ العمالة في دول مجلس التعاون الخليجي بعد حرب الخليج الثانية. وما يميز هذه الموجة أنَّ العامل المهاجر كان يتمكّن من التردّد إلى أسرته بشكل منتظم بسبب قصر المسافة وسهولة الانتقال.
ومع دخول البلاد في أزمتها المدمّرة عام 2011، بدأت الموجة الرابعة من الهجرة الخارجية للسوريين، التي يمكن مقاربتها من عدة نواحٍ تتعلّق بالدّول المستهدفة من قبل المهاجرين السوريين، والأسباب الرئيسية للهجرة، وأهداف المهاجرين، وحال الاستقرار من عدمه في مجتمعات اللجوء والهجرة.
وبناء على ذلك، يمكن تقسيم الموجة الرابعة إلى مرحلتين: الأولى تمتد بين عامي 2011 و2016، والأخرى بين عامي 2017 و2022، مع الإشارة إلى أن وتيرة الهجرة في كل مرحلة كانت تختلف بين عام وآخر، تبعاً لتطورات الوضع الداخلي ومواقف الدول من قضية الهجرة، وهذا ما تتضح ملامحه اليوم.
في السنوات الأولى من عمر الأزمة، كان سبب الهجرة الرئيس هو المخاوف الأمنية والجبهات المشتعلة في مناطق عديدة من البلاد. أما اليوم، فإن الإحباط وفقدان الأمل وتدهور الأوضاع الاقتصادية هو الدافع الأول للهجرة.
ووفقاً لنتائج مسح السكان عام 2014، الذي لا يزال يشكل المرجع الوحيد لمعظم المؤشرات السكانية، فإنَّ دول المنطقة كانت المقصد الأول لمعظم اللاجئين والمهاجرين، سواء ممن كانوا يملكون بعض المدخرات والأموال وخرجوا مع أسرهم بحثاً عن فرصة أفضل في العمل والمعيشة أو ممن خرجوا بثيابهم ولم يكونوا يملكون أي أموال أو مدخرات.
وبحسب نتائج المسح المذكور، فقد كان هناك، ولغاية منتصف العام 2014، نحو 3.1 ملايين لاجئ ومهاجر سوري، أي ما نسبته 13 من إجمالي عدد سكان البلاد آنذاك، منهم نحو 2.1 مليون بصفة لاجئ توزعوا غالباً بين دول الجوار، ونحو مليون بصفة مهاجر، فضّل الجزء الأكبر منهم التوجه إلى دول عربية لسهولة الاندماج الاقتصادي والتقارب الاجتماعي، إضافة إلى القيود الغربية التي كانت مفروضة على الهجرة، إذ توجه نحو 32.3% منهم إلى لبنان، و17.9% إلى تركيا، و15.9% إلى دول الخليج العربي، و10.1% إلى الأردن، و9% إلى مصر، و4.1% إلى العراق.
أما نسبة السوريين الذين هاجروا خلال تلك الفترة إلى الدول الأوروبية، فلم تتجاوز 8.7%. وقد اتجهوا إلى ألمانيا وفرنسا والسويد والدنمارك، فيما توزع بقية المهاجرين، ونسبتهم 2%، على دول متعددة، كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والبرازيل وغيرها.
وتكشف بيانات المسح المذكور أنَّ أكبر عدد من المهاجرين السوريين خرجوا آنذاك من ريف دمشق، إذ بلغت نسبتهم إلى الإجمالي نحو 18%، وتوجه معظمهم إلى لبنان ومصر والسعودية. وفي المرتبة الثانية، جاءت محافظة درعا بنسبة 14%، وكانت وجهة معظمهم هي الأردن ولبنان ودول الخليج العربي.
ولم يقتصر الأمر على المحافظات الساخنة، إنما امتدت الظاهرة لتشمل بعض المحافظات الآمنة، كدمشق، ومناطق وأحياء فيها أكثر أمناً، مثل أبو رمانة والقصاع والعدوي والروضة. وقد بلغت نسبة المهاجرين من دمشق عام 2014 نحو 13%.
وتؤكد دراسة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين جرت عام 2015 أن السوريين احتلوا المرتبة الأولى بين الجنسيات التي تمكن مواطنوها من الوصول إلى أوروبا عبر البحر، وشكلت نسبة السوريين نحو 34%، في حين أن حمَلة الجنسية الأفغانية الذين جاؤوا في المرتبة الثانية لم تتجاوز نسبتهم 12%، كذلك حمَلة الجنسية الإرتيرية.
دوافع جديدة
في المرحلة الثانية من موجة الهجرة الرابعة للسوريين، التي تمتد فترتها الزمنية بين عامي 2017 و2022، حدثت مجموعة من المتغيرات المحلية والخارجية انعكس تأثيرها بشكل مباشر على أعداد المهاجرين بين عام وآخر، وكذلك على الوجهات النهائية للمهاجرين.
على سبيل المثال، مع انحسار المعارك عن مساحات واسعة من البلاد بدءاً من العام 2018، تراجعت أعداد المهاجرين لفترة محدودة جداً، مع انتعاش فرص استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإمكانية التوصل إلى حل سياسي، لكنَّ هذه الفرص تبخّرت مع منتصف العام 2019، إذ أخذت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المحلية بالتدهور تدريجياً بفعل عوامل داخلية وخارجية.
وقد تعمّق ذلك التدهور بشكل ملحوظ في العامين التاليين 2020 و2021، الأمر الذي دفع الكثير من أصحاب الكفاءات والشهادات والمهارات “المحبطة” والمضغوطة معيشياً إلى التفكير مجدداً في خيار الهجرة كمخرج وحيد من الأوضاع العامة السائدة في البلاد، لكن ما يميّز حركة الهجرة الحديثة عدة نقاط، أبرزها:
– تصدّر الأسباب الاقتصادية والاجتماعية وفقدان الأمل بحدوث تحولات سياسية تنهي حقبة الأزمة وتداعياتها قائمة دوافع الهجرة، فيما كانت المخاوف الأمنية هي السبب الأول للهجرة عام 2016 وما قبل، مع الإشارة إلى أن ما سبق لا يعني أن المبررات الاقتصادية لم تكن حاضرة سابقاً في مرحلة الهجرة الأولى من عمر الأزمة السورية، ولا يعني أيضاً أنَّ المخاوف الأمنية ليست من الأسباب التي تدفع البعض إلى الهجرة اليوم.
– تفضيل الهجرة نحو الدول الأوروبية وكندا، رغم ارتفاع مستويات الخطر إلى حدود كبيرة. والسبب أنَّ العديد من الدول العربية وضعت عوائق واشتراطات تحول دون دخول السوريين إلى أراضيها، في الوقت الّذي كانت دول أوروبية عديدة تقرّ علناً إجراءات وسياسات من شأنها استقبال المزيد من اللاجئين.
هذا ربما ما جعل أعداد المهاجرين نحو الدول الأوروبية، وبخلاف ما كان سائداً قبل العام 2014، تزداد على حساب أعداد المهاجرين نحو الدول العربية، رغم ارتفاع مستوى مخاطر الهجرة غير الشرعية التي جسّدتها حوادث عديدة في البحر والبر، وذهب ضحيتها مئات الأسر الباحثة عن أمل ما.
– دخول معظم المحافظات والمناطق السورية على خطّ تصدير المهاجرين، ومن دون أي استثناء، بدءاً من المحافظات والمناطق التي بقيت آمنة طيلة سنوات الحرب، وليس انتهاء بالمناطق التي عادت إلى سلطة الدولة أو تلك التي بقيت تحت سيطرة مجموعات وفصائل مسلحة مختلفة، وحادثة الغرق الأخيرة خير دليل على ذلك.
– دخول دول جديدة في المنطقة، مثل لبنان، على خطِّ محاولة الهجرة نحو الغرب هرباً من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أعطى السوريين حافزاً إضافياً للتصديق على قرارهم في الهجرة، بل إن ذلك وفر لهم نقطة انطلاق جديدة لعبور البحر المتوسط والوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
أخبار سيئة
اليوم، تذهب تقديرات بعض الباحثين السوريين إلى القول إنَّ عدد المهاجرين السوريين بات يتجاوز حالياً نحو مليون ونصف مليون مهاجر، أي أنَّ السنوات الممتدة من العام 2015 ولغاية اليوم شهدت هجرة ما يزيد على نصف مليون سوري، والرقم سيكون مرشحاً إلى مزيد من الارتفاع مع استمرار فقدان الأمل، وشيوع الإحباط، وتعمق الأزمات الاقتصادية المحلية والإقليمية. ولذلك، علينا أن نستعد -للأسف- لسماع المزيد من الأخبار السيئة.
زياد غصن – الميادين نت….